بيان الدقة في البشارة بأنه تسجد له ملوك فارس
قال: "وخضعت له ملوك الفرس فلم يبق منهم إلا من أسلم أو أدى الجزية عن يد وهم صاغرون".
وقد ذكرنا أن النصارى الذين كانوا على دين المسيح عليه السلام لم يجاهدوا، لكن الدولة الرومانية التي كانت على النصرانية، وتدين بالدين المحرف، كانت أقوى دول العالم، ومع ذلك فقد ظلت تحارب الفرس حوالي ألف سنة، ولم تستطع إحداهما أن تفتك بالأخرى، وكان أهيب وأخوف ما عند الروم هم أمة الفرس، أما العرب فلم يكن الفرس -وكذلك الروم- يحسبون لهم أدنى حساب، وما كان يخطر ببال أحد من الفرس أن الذي سيهزمهم ويأخذ ملكهم هم العرب، فكان العدو الأخطر عندهم هي هذه الأمة العاتية القوية: أمة الفرس، وكان أكثر ما يتقدم الروم عليهم أن يدخلوا إلى بعض أراضي العراق، ولم يتجاوزوا ذلك.
فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالجهاد في أيام الصديق رضي الله عنه، أرسل إليهم خالد بن الوليد، ثم كان بعد ذلك المثنى بن حارثة وسعد بن أبي وقاص وغيرهما، فدكوا عرش كسرى، واخترقوا مملكته، حتى وصلوا إلى أراضي الصين وقضي على مملكة كسرى تماماً.
قال: "وخضعت له ملوك الفرس، فلم يبق منهم إلا من أسلم أو أدى الجزية عن يد وهم صاغرون؛ بخلاف ملوك الروم؛ فإن فيهم من لم يسلم ويؤد الجزية؛ فلهذا خص ملوك فارس".
فقد قيل في البشارة: (يجوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، فبحر أهل الجزائر بين يديه، ويلحس أعداؤه التراب، ويسجد له ملوك الفرس)، أي: يخضعون له، وهذا هو الذي وقع، فإن الروم بقيت لهم أوروبا ؛ فإن هرقل لما جاءه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتاب، ودعا أبا سفيان ومن معه وسأله، ثم أخبره بأن هذه الأوصاف لا تكون إلا في نبي؛ أي: أنه كان مقتنعاً بأن هذا نبي، ولكن لم يطاوعه قومه، فاحتفظ بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: والله ليبلغن ملكه ما تحت قدمي هاتين، وبلغت جيوش الإسلام ذلك، فقال: سلام عليك يا سوريا! سلام لا لقاء بعده، ورحل عن سوريا، ودخل إلى الأناضول حيث كانت مملكة بيزنطة، ودخلت جيوش المسلمين حتى أخذت كل ما هو دون البحر، وبقيت لهم القسطنطينية، وقد حاصرها المسلمون في زمن معاوية رضي الله عنه، وكان يزيد قائد الجيش، وكان في الجيش أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
وبهذه الفتوحات وهناك انتهت مملكة الروم في آسيا، ولم يبق لهم فيها ملك، لا في مصر ولا في بلاد الشام ولا الشمال الإفريقي، لكن بقي ملكهم في أوروبا ؛ فكانت لهم مملكتان في أوروبا : الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وهي تشمل البلغار والرومان -رومانيا اليوم - والروس ودول البلقان واليونان وما حولهما، والإمبراطورية الرومانية الغربية، وهي تشمل فرنسا وألمانيا وما حولها من الدول، وتبعاً لذلك الجزر البريطانية، فكانت أوروبا مملكتين: الشرقية والغربية؛ فانكمشت هاتان المملكتان على نفسيهما ولم تدخلا في الإسلام.
فإذاً: هذه البشارة دقيقة؛ لأنها ذكرت خضوع ملوك الفرس، ولم تذكر خضوع ملوك الروم، وهذا هو الذي وقع.
يقول: "ودانت له الأمم، فعامة الأمم التي تعرفه وتعرف أمته كانت إما مؤمنة به، أو مسلمة له منافقة، أو مهادنة مصالحة، أو خائفة منهم"، فكل الأمم دانت له صلى الله عليه وسلم: فإما أنها أسلمت كما وقع من أكثرهم والحمد لله، وإما نافقت كـالمجوس الفرس؛ فإن كثيراً منهم دخلوا الإسلام نفاقاً، لكنهم على كل حال قهروا وذلوا، أو هادنوا؛ كبلاد الصين وما حولها، حيث دفعوا الجزية وهادنوا، أو "خائفة منهم"، وهذا حال بلاد أوروبا الغربية، بل أحياناً كانت أوروبا الغربية تدفع الجزية؛ فهذا هو حال كل الأمم؛ فقد خضعوا له صلوات الله وسلامه عليه، ودانوا لحكمه.
يقول: "وهذا بخلاف المسيح"، يعني: أن هذه البشارة لا تنطبق على المسيح عليه السلام.. قال: "فإنه لم يتمكن هذا التمكن في حياته، ولا من اتبعه بعد موته تمكنوا هذا التمكن، ولا جازوا ما ذكر، ولا صلي عليه وبورك عليه في اليوم والليلة؛ فإن النصارى يدعون إلهية المسيح فلا يصلون عليه وإنما يصلون له"، فهذا الشرك كان دليلاً على أنهم على غير الحق، فإنهم لا يصلون عليه وإنما يصلون له.. تعالى الله عما يصفون!